إسفلت البِشْري وآفاق استخداماته


تعتبر سوريا في طليعة البلدان العربية من حيث (الكثافة الطرقية) إذ يصل طول الشبكة الطرقية في سوريا إلى ما يقارب 50000 كم، وتشير المعطيات إلى أن (مادة البيتومين) التي تدخل في (الإسفلت) - المادة الرابطة  للحصويات في الخلائط الإسفلتية  المنتجة صناعياً-غير كافية لتغطية الاحتياجات المحلية للمشاريع الطرقية لذا يتم استيراد هذه المادة بملايين الدولارات سنوياً.

من هنا كان التفكير بتوفير البدائل المحلية التي يمكن استخدامها في إنشاء طبقات الرصف الطرقية وفي صيانة الشبكة الطرقية دون اللجوء إلى استيراد المادة.

إن البدائل المحلية - الممكن استخدامها كبديل للبيتومين الصناعي المنتج في المصافي النفطية في مصفاتي حمص وبانياس نتيجة تكرير المواد البترولية - هي الزفت الخام الطبيعي الذي توفره الطبيعة باندفاع مادة البيتومين في طبقات التربة، وحقن وإملاء وتشريب الفراغات والحصويات  التي تصادفها لتشكل خليطاً طبيعياً من (الإسفلت الخام الطبيعي).

تتوفر هذه المادة الخام الطبيعية في سوريا في موقعي جبل البشري وكفرية.

جبل البشري جبل من الإسفلت الطبيعي يقع شمال غرب دير الزور، وجنوب شرق الرقة بمساحة انتشار للمادة تصل إلى 60 كيلومتراً مربعاً، وعلى عمق يصل إلى 8 م من سطح الأرض باحتياطي تقديري يصل إلى 100 مليون طن، وتصل نسبة الرابط البيتوميني في الإسفلت بين (17-22%)، وهي نسبة توفر احتياطياً كبيراً من الرابط البيتوميني، والمادة خليط من البيتومين والرمل الكوارتزي وحيد التدرج.

ماتزال البدائل الطبيعية ومنها زفت البشري خارج دائرة الاستخدام الفعال إلى يومنا هذا؛ حيث اقتصرت استخداماته على تغطية بعض الطرق المحلية المجاورة للموقع والمنفذة بطرق غير فنية تقتصر على تفتيت المادة وفرشها ورصها، وفي أحسن أحوالها تمت مراعاة  بعض المعايير الفنية  في التنفيذ المتعلقة بإعداد طبقة القاعدة الترابية ورشها بالمواد البيتومينية الصناعية، وتغطيتها بطبقة من إسفلت البشري المطحون، ثم بطبقة داعمة هيكلياً من الحصويات المتدرجة مع اشتراطات حرارية ورص ميكانيكي بواسطة المداحل.

إن الاستخدامات المشار إليها تكون عملية في تغطية الطرق المحلية ذات الغزارات المرورية القليلة والحمولات الصغيرة، وتبقى أفضل من حالة الطرق المعبدة بالحصويات، ولكن لاتوصف هذه الأعمال بالفنية في ضوء المعايير والاشتراطات الفنية للمادة وتنفيذها المقررة بموجب الكودات والأنظمة.

إن محاولات الاستفادة من زفت البشري تعود للخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في تغطية بعض طرق محافظة الجزيرة والفرات التي كانت تضم دير الزور والحسكة والرقة، حيث تنقل المادة الخام (وكانت تسمى القير) من المقلع إلى الطريق، ويتم تكسيرها وفرشها باليد العاملة، وتدحى بمداحل معدنية، إلا أنه وعند ارتفاع درجة الحرارة صيفاً تظهر التشوهات المختلفة من تدرج، وزحف، وتفوير؛ بسبب قوام المادة وفقر بنيتها الهيكلية التي تقتصر على الرمل السيليسي الناعم وحيد التدرج والرابط البيتوميني ونسبته العالية في الخليط.

وفي السبعينيات من القرن الماضي صدرت تعليمات عن وزارة المواصلات تحدد معايير  استخدام المادة وتنفيذها واشتراطات حرارية ورص ميكانيكي مع تحديد لسماكات طبقات زفت البشري والمواد الحصوية وذلك على الطرق المحلية منخفضة التكاليف.

وفي الثمانينات من القرن الماضي قامت الشركة العامة للطرق مع شركة فيانوفا النرويجية بدراسة استخدام زفت البشري.

وفي التسعينيات من القرن الماضي أعدت وزارة النفط والثروة المعدنية اضبارة مناقصة لاستثمار وتصنيع خام البشري، ولكن لم يشهد النصف الثاني من القرن الماضي أي تقدم على صعيد استثمار واستخدام إسفلت البشري، واقتصرت الأعمال المنفذة على تنفيذ طبقات رصف محدودة لطرق محلية تراعي في أحسن أحوالها معايير تنفيذ بسيطة لاتفي بالمتطلبات الفنية للخلائط البيتومينية.

وفي القرن الحالي قامت محافظة حلب (مديرية الخدمات الفنية) بإجراء دراسات مخبرية استهدفت استخدام المادة الخام من زفت البشري بشكلها الطبيعي، وإضافة الحصويات اللازمة (وفقا لمارشال)، مع إدخال بعض التعديلات على مجابل الخلط، كما قامت بالتعاقد لتنفيذ رصف بعض الطرق المحلية في المحافظة باستخدام إسفلت البشري، وقد تكون هذه الخطوة من أولى الخطوات المؤسساتية في تطبيق استخدام هذه المادة، وفي ضوء متابعتي لهذا الموضوع حيث كنت مكلفا بذلك على خلفية توصية المؤتمر السوري الدولي الأول للطرق باستخدام البدائل الطبيعية في إنشاء وصيانة الطرق وتقديري أن المؤشرات الأولية لاستخدامات زفت البشري على الطرق المحلية في محافظة حلب كانت عملية واقتصادية من حيث تكاليف الإنشاء وسعر وحدة العمل المنفذة من هذا الخليط، إلا أن اقتصارها على تحسين التركيب الحبي دون تحسين الرابط البيتوميني لايوفر للخليط ديمومة العمر الافتراضي بسبب قساوة الخليط المنتج.

كما وقامت الشركة العامة للطرق والجسور بإجراء دراسات مخبرية مستفيدة من بحث أكاديمي لباحث سوري في جامعة القاهرة استهدفت تحسين الرابط الطبيعي بإضافة نسبة من الرابط الصناعي، وتحسين التركيب الحبي (وفقا لمارشال)، مع إدخال بعض التعديلات على مجابل الخلط التقليدية، ودعم المجبل بوحدة تلقيم ووحدة تسخين، وتم تطبيق ذلك في مجبل أبو قبيع في محافظة الرقة، وتنفيذ قطاع محدود من أوتوستراد حلب – الرقة وكانت المؤشرات جيدة.

مايزال استخدام زفت البشري مقتصراً على مبادرات مرتجلة أكاديمية أو مؤسساتية، وقد تكون الأبحاث والدراسات وما توصلت إليه متقدمة على الإجراءات التطبيقية وإن كانت لم تحسم أمرها بعد في وضع الحلول الفنية والتقتية لاستخدام المادة وتوفير تكنولوجيا متكاملة تلبي تحقيق المواصفات الفنية المطلوبة في المادة.

 

توضح الدراسات والاختبارات الجارية على المادة:

  • أن الرابط البيتوميني لإسفلت البشري يتصف بلزوجة عالية لاتتوافق مع اللزوجة المطلوبة في مواصفات الخلائط البيتومينية المقررة ولهذا فإن تحسين خصائص الرابط الطبيعي بإضافة المحسنات أمر مطلوب، وقد أضافت بعض الأبحاث المجراة نسبة من الرابط البيتوميني الصناعي أو مادة الزيت المحروق المستهلك في المركبات.
  • إن إسفلت البشري يقتصر قي مكوناته الحصوية على الرمل السيليسي وحيد التدرج ويفتقر إلى الحصويات الخشنة وبالتالي فان تحسين تدرج الخليط بإضافة الحصويات ضمن نطاق مدروس للتدرج أمر مطلوب.
  • إن نتائج الاختبارات المجراة على العينات التي تم تحسين الرابط الطبيعي من خلال إضافات للمحسنات التي أشرنا إليها وإضافة الحصويات اللازمة أعطت نتائج تتوافق مع حدود ومتطلبات الخلائط البيتومينية على الساخن.

ولكن المشكلة هي في نقل نتائج الأبحاث على الأرض. إن ذلك يتطلب بعض التعديلات على خطوط الإنتاج من خلال تصنيع بعض الوحدات الملحقة بالمجابل العادية مثل وحدات التحطيم والتسخين والخلط ... الخ، وهناك مبادرات سابقة بهذا الاتجاه قامت بها مديرية الخدمات الفنية بحلب بتعديل خط الإنتاج لمجبل عين العرب، والشركة العامة للطرق والجسور لمجبل أبو قبيع في الرقة، مع ملاحظة أن استخدام المادة يمكن أن يتم باتجاهين:

  • الاتجاه الأول: استخلاص الرابط البيتوميني وتخليصه من الرمل السيليسي بشكل صرف من خلال معمل استخلاص يمكن إنشاؤه جوار الموقع.
  • الاتجاه الثاني: استخدام المادة الطبيعية الخام وتحسين الرابط والتركيب الحبي.

ويمكن إجراء دراسات جدوى اقتصادية تفاضل بين الاتجاهين المشار إليهما آخذة بعين الاعتبار مسافات النقل ونطاق الاستخدام الأمثل لهذه المادة في المحافظات المحيطة بموقع البشري.

وجهة نظرنا: إن احتياطي جبل البشري من الإسفلت الطبيعي ثروة كامنة تغطي احتياجات القطر لعقود من الزمن وتوفر ملايين الدولارات على الدولة  لاستيراد البيتومين الصناعي، وكي يتم الاستثمار الأمثل لهذه الثروة ينبغي العمل بموجب أولويات:

  1. الاعتماد على الخبرات المحلية التقنية والاختصاصية في تصميم تكنولوجيا استخلاص الرابط البيتوميني، وإنشاء معمل استخلاص جوار الموقع، وإدراج ذلك في خطة الدولة، وفي حال عدم توفر مثل هذه الخبرات، يتم الاعتماد على خبرات خارجية من خلال استدراج عروض، وهناك سابقة لوزارة النفط بهذا الخصوص كما ذكرنا.
  2. الاستفادة من مبادرة مديرية الخدمات الفنية في حلب، ومبادرة الشركة العامة للطرق والجسور في وضع دفتر شروط فنية خاصة باستدراج عروض محلية لتصميم وحدات ملحقة بالمجابل التقليدية من قبل الصناعيين السوريين وفي حال فشل الاستدراج، يمكن اللجوء إلى الشركات العالمية المصنعة للمجابل.
  3. إدراج التنفيذ بإسفلت البشري بنسبة (25%) في خطة الطرق المحلية  للمحافظات المحيطة بموقع البشري (دير الزور، الرقة، الحسكة)، وتعديل مجبل في كل محافظة على غرار (مجبل ابوقبيع، ومجبل عين العرب)؛ لإتاحة الفرصة أمام التقنيين والاختصاصيين لتطوير العمل بهذه المادة وتوفير قواعد البيانات والمعلومات اللازمة.
  4. تكريس أبحاث أكاديمية في الجامعات السورية لاستثمار وتطوير استخدام البدائل الطبيعية المتوفرة من الإسفلت الخام، وإقامة ورشات عمل سنوية بمشاركة الأكاديميين والفنيين والاختصاصيين وأن توضع التوصيات موضع التطبيق.
  5. تشكيل لجنة متابعة وتقييم للنشاطات والتوصيات المتعلقة بتطوير استخدامات المادة تتمثل بتقنيين واختصاصيين واحترافيين من الوزارات ذات الصلة.

وإذا كانت هناك توجهات تشير إلى أن استخدامات إسفلت البشري ممكنة فقط على الطرق المحلية، فإن نتائج الدراسات والأبحاث المخبرية تشير إلى تحقق كافة المتطلبات الفنية للعينات المعالجة والمحسنة، وبالتالي لايوجد مايمنع فنياً من استخدامها في الشبكة المركزية شريطة أن توفر تكنولوجيا ملائمة لتصنيع الخليط.

وحيث أن طول الشبكة المحلية يعادل أربعة أضعاف الشبكة المركزية وبالتالي فان الأولوية هي في استخدامه في نطاق الشبكة المحلية بصرف النظر عن بقية الاعتبارات الأخرى.

بالتأكيد إن استغلال واستثمار كافة الموارد الطبيعية المتاحة في مرحلة إعادة إعمار سوريا أولوية استراتيجية تستوجب تقديم الدعم الاستشاري التقني للإجراءات اللازمة لتنفيذ السياسات المرتبطة بهذا التوجه والداعمة للاقتصاد السوري وهذا المقال محاولة تندرج في هذا الإطار.

..........................................................................................

 

إعداد: م. سليمان حاتم - مستشار وزير النقل لشؤون الدراسات والبنى التحتية